September 24, 2007

عشر ليالٍ من رمضان

تميم البرغوثي (أخبار الأدب
رمضان 1423 /تشرين الثاني، نوفمبر 2002

المجاز هو الحل. المجاز معادلة صعبة بين الثابت والمتغير من المعنى، فله وجوه كثيرة وكلها من وجه واحد. ليس هلوسة لا علاقة لها بالكون المادي، وليس إخباراً عن الواقع لازماً له كقوانين الكيمياء يبقى ببقاء المادة ويتغير بتغيرها. والمجاز حال بين حالين، صفة معلومة لموصوف مجهول. واللغة على هذا مجاز كلها. فقولك هذه شجرة يجوز على الشجرة الحقيقية كما يجوز على كل ما أشبهها، من سدرة المنتهى إلى شجرة العائلة، وكذلك الكلب والأسد والسماء والريح والليل والسيف والعصا واللجام ومشط الفتاة والفتاة وصنابير الماء في ميضأة الجامع والشلال في بلاد الروم وغبار المغيرات صبحاً والغبار المنفوض عن بساط تضربه خادمة في شرفة، كلها تجوز أسماؤها عليها وعلى غيرها. ولن تقدر أن تحدد متى بالضبط يكون الشيء شجرة ومتى لا يكون، ولكنك تسميه على أي حال، فلا يعرف المرء ما الصفة الثابتة في الشجرة، والتي لو توفرت في جسم ما استحق اسمها ، وما الصفة المتغيرة فيها والتي لا يوجب حضورها الاسم ولا ينفيه غيابها. المجاز يمزج الصفتين ويترك لك حرية التسمية.


 والأسماء ميزة آدم على الخلق وهديته من الخالق، الشعر ما هو إلا تسمية وإعادة تسمية، الشعر تعريف العالم وإعادة تعريفه. وعليه فقد خلق آدم شاعراً. إلا أن الشعراء يكثرون من إعادة تعريف العالم، من خلط ألأسماء والأجسام كأوراق اللعب وتوزيعها في كل مرة ينطقون، فيجيزون اسم هذا على جسم ذاك. وابن آدم أكثر الخلق شعراً، والشعراء أكثر الخلق آدمية.

والكلام على سيد الضوي...

بدعوة عبد الرحمن الأبنودي، أتى سيد الضوي من بلاده ليروي ما تيسر من السيرة الهلالية في عشر ليال من رمضان. حضرت أكثرها، وحضر أكثرها أكثر الحاضرين. والشيخ يعيد كل يوم مربعاته التي بها يصلي على النبي، فلا تعاد، إنما له في كل ليلة صلاة غير صلاة الليلة التي قبلها. ملك الشيخ حرفة المتغير والثابت. إن تغير رواية السيرة من جيل لجيل ومن شاعر لشاعر بل ومن ليلة لليلة، ضمان استمرارها وبقائها، فإنها قافلة تحمل ما حملتها. كتجدد خلايا الجسم يتغير ولا يتغير. كأن يقول:


ولا حد خالي من الهم حتى قلوع المـــراكب
لا تقول للندل ياعم لو كان على التخت راكب


هذا البيت معروف، فانظر ماذا صنع به:


ولا حد خالي من الهم حتى السعف في جريدُه
لا تقول للندل ياعم لو كان روحك في إيدُه

ولاحد خالي من الهم حتى الحصى في الأراضي
مافيه لا روح ولا دم وبالظلم ما هوش راضي

والسيرة تحمل ما حملتها كما قلت. كنت أسير في شارع المعز لدين الله الفاطمي عائدا من بيت السحيمي إلى الأزهر. وكنت أردد ما حفظت من أبيات الشاعر حتى لا أنساها، خاصة وأن سيد الضوي روى في الليلات الأخيرة أجزاء من السيرة ليست في الكتاب المنشور. ولأن السيرة تحمل ما حملتها، كنت إذا نسيت بيتاً ارتجلت من عندي.


تذكرت ما قال سيد الضوي:


طه رباية حليماه
1 أحمد عيونه رغابة
جه عِدِّ مالح حلي ماه
2 وقال اشربوا يا صحابة

بكرة ح ادق الوتد داي (ده) جمل الحمول فز بيها
أيام بتاخد وتداي (وتدي) واللي صبر فاز بيها


ثم نسيت فأكملت من عندي:


مين اللي له حق ونَساه مين اللي يرضى الهواني
الندل في خمره ونِساه وهمِّي هويته وهواني

ورق الكتب أصبح ف هَمّ قال يا خسارة بياضي
اللي بِيِحفظ ما يفهم كالجوِّ مليان وفاضي


وتذكرت قوله في مواجهة بين الزناتي خليفة وأبي القمصان عبد أبي زيد:


سكر الزناتي بلا كيف والعقل منه جناين
والروح شايلها عا الكفّ يحمي البلد والجناين


فقلت أنا:


ويقول يا سِفْلِة بني هلال يا شرِّ صاحي ونايم
من قبل ما يبيِّن هلال لاخد نساكم غنايم


فقال سيد:


قوم شاف في الكرم قمصان قال م المرارة لزيدك
جسمي ما يحملش قمصان ملعون ابوك وابو زيدك


فقلت من عندي:


يا عبد روح نادي بَرَكات أمه حجابها هلايل
دي جمال للنحس بَرَكات في نجعكم يا هلايل
3



فقال سيد على لسان أبي القمصان، وقد أصبح الأن يسير معي في زحمة المعز:

قال سيِّدي مالكم بيه شريف وأمه شريفة
هوه السبوعة كفو ليه وانا كفوكم يا خليفة

جض الزناتي وقال آخ جارت عليا الليالي
محتار بين ضحك وصراخ إلعبد واقف قبالي


ثم سكت، فأجزت من عندي ، وكنت أصبحت الآن مدلاًّ عليه فأطلت:


العبد م النحس منحوت والطبع عا الخلق مالك
سِنَّارة لو حذَّرَت حوت لَيقول لها وانت مالك

عمر العدو مني سَلَفُه ولكل سُلفة رديدة
خَلَف الفتى زي سَلَفُه كيف الرغيف والرديدة
3


يا دهر تكرم وترزي أعمي دليل الخلايق
وانا سيفي شغلته ترزي تجارته سود الخلايق
4



قاضي في حكمه ما يلبس عمره ما حابى حميمه
عريان حالف ما يلبس إلا ودمك حميمه
5


أنا سيفي تاجر مصاغي الكلمة منه عقودِ
لو كنت للقول ما صاغي تلقاه مكان العقودِ

النار من الزيت قيدها والحرب كلمة وتاهت
ضايعة مفاتيح قيدها ع الناس ركبت وتاهت

النار علبة وكبريت في الليل ليها شبيبة
والحرب كلمة وكبرِت والشِّيب ما تعود شبيبة
6


غولة صغيرة وأسَنَّت تكتب قدرنا بعصاها
قوانين خطت وَسَنَّت مسكين ياللي عصاها

أبلينا غيرنا وْحَ نَبلَى يا دنيا مالنا ومالك
يا كافرة عند الحنابلة وحنفي وشافعي ومالك

الخيل فرت وكرَّت والألف عالألف صالِ
والموت شِلَّة وكرَّت بيع البلا بالفصالِ
7


والسيرة الهلالية عمل من أعمال المقاومة بامتياز، لا لما في مضمونها من قيم، فإن فيها الصالح والطالح، ولكن لكونها تثبيتاً للثقافة العربية في مصر في وقت تتعرض فيه الأمة لعملية محو مادي ومعنوي. والناس في بلادنا يموتون، ومن يبقى حياً يسأل لماذا مات من ماتوا، ويسأل هل عندنا ما نقدر أن نرد به الموت. الشعر لا يرد الموت ولكنه يصنع الهوية، والهوية تعطي الناس أساساً يجتمعون حوله، واجتماعهم يرد الموت عنهم. فلا غرو أن بدأ عبد الرحمن الأبنودي في جمعها بعد هزيمة سبعة وستين رأساً.


و السيرة الهلالية إغناء للثقافة العربية من ناحية، وتأكيد لعروبة مصر من أخرى. اللغة العربية لهجاتها كلٌّ واحد، إنما كل لهجةٍ وجهٌ من العربية، كوجوه المعنى في المجاز. اللهجات مرايا اللغة، و إن تعددت المرايا تعددت الصور والجسم واحد، وكذلك تتعدد الأسماء والمسمى واحد. فإضافة العامية الصعيدية إلى العاميات العربية وإلى تاريخ اللغة العربية بتقديم هذه الملحمة إثراء للغة، وتقديم هذه الملحمة على منصات الثقافة في مصر القاهرة يظهر، لمن لا يريد أن يرى، اتصال البلاد العاطفي والعقلي والمادي بمحيطها. السيرة بالعامية، لكنَّ تراكيب الجمل فيها فصيحة، صور الشعر فيها، أسماء الأماكن والأبطال والقيم كلها عربية إسلامية قحة.إن كان الأبنودي قد جمع السيرة الهلالية كلَّها فقد أهدى اللغة العربية مرآة من مراياها كانت غائبة عنها ونبهها إلى إرث عظيم لها كان نسيا منسيا.


كنت ماشياً في شارع المعز لدين الله الفاطمي، حولي قباب السلاطين، وباعة المناديل، سيارات الأجرة تحشر الناس في الشارع وتنحشر، والأحجار الناتئة من أسفل لا تمل اختبار قدرات المرء على التوازن. أمامي كانت تسير امرأة متوسطة العمر والقامة تحمل على يدها طفلا رضيعاً. ثم عَثَرَت ببعض الأحجار في الشارع، حاوَلَت ألا تقع، فوقعت. لكنها وقعت بحرفية يحسدها عليها أكثر لاعبي المصارعة مهارة. لقد تلوت في الهواء كالسمكة المصيدة لتوها، وانقلبت على ظهرها وجعلت طفلها على بطنها تمسكه بيديها. غريزة الأمومة فيها حولتها من امرأة إلى طائر إلى سمكة إلى امرأة مرة أخرى، والناس ينظرون. المشهد، مجازاً، يحتمل ألف معنى ومعنى، عن حالنا وحال تاريخنا، ولا أدري هل ستحمينا ثقافتنا أم سنحميها، هل ستحملنا هذه الأمة أم سنحملها.



 وعلى مستوى أدنى وأقل وجودية، لا أدري هل الأبنودي أدخل السيرة في تاريخ العربية ، أم السيرة أدخلت الأبنودي فيه، ولا أدري من حمى الآخر بين الأم وابنها في آخر شارع المعز، لو لم تكن تحمله لربما لم تتقن السقوط وشدخت رأسها، ولو لم يكن في يدها لهلك. فكرت في الخطط الغريزية لإتقان السقوط، إتقانه حتى ينقلب إلى ضده، أَوَليس الاستشهاد إتقاناً للموت يجرده من صفاته ويقلبه إلى ضده، لكن هذه مسألة أخرى...

لهم الشكر، لسيد الضوي وعبد الرحمن الأبنودي والأم وابنها، لما نُصلِّي على النبي....



1 طه رباية حليماه: النبي الذي ربته السيدة حليمة السعدية2جه عد مالح حلي ماه: جاء النبي إلى "عدّ" أي بئر مالحة فأصبح ماؤها حلواً، والجناس ظاهر بين "حليماه" في الشطر الأول و"حلي ماه" في الشطر الثالث3 بركات الأولى اسم من أسماء أبي زيد وبركات الثاني: بركت الإبل أي حطت على الأرض مدت الفتحة التي على الكف حتى صارت ألفاً ليتم الجناس بينها وبين بركات الأولى وهي رخصة شائعة في المربعات، وهلايل الأولى: هلاهيل أي خرق ممزقة والمقصود أن حجاب أم العبد لا يسترها فهي مفضوحة وهلايل الثانية:بنو هلال4الرديدة الأولى مصدر من رد الدين، والرديدة الثانية من ردة الخبز5 ترزي الأولى: ترزأ من الرزيئة، وترزي الثانية: الخياط، الخلايق الأولى: الناس و الخلايق الثانية: من الخَلَقات وهي الملابس6ما يلبس الأولى من اللَّبس والالتباس، أي أن السيف قاض لا يخلط الحق بالباطل، وما يلبس الثانية: لا يرتدي ملا بسه، والمقصود أن السيف لا يدخل غمده قبل نفاذ حكمه، وحميمه الأولى: الصاحب الحميم فهذا القاضي لا يحابي أحدا، وحميمه الثانية: ماء الاستحمام.6 شبيبة الأولى من قولك شبت النار أي توقدت وشبيب النار وشبها توهجها وشبيبة الثانية: شباب أي أن الحرب وإن كانت تبدأ بكلمة إلا أنها لا تنتهي بكلمة كما أن الشيب وإن كانوا شباب فإنهم لا يعودون كذلك، وتمد الكسرة التي على الراء في "كبرت" الثانية حتى تجانس كبريت في الآخر الشطر الأول.7 الموت شلة وكرت: الشلة كرة ملفوفة من خيوط الصوف فإن نسل طرف خيط منها ظلت تدور وهكذا وكرت الشلة نُسل طرف الخيط منها

No comments: