مقال رائع للكاتب جودت سعيد .. من غير المنصف وصفه بأقلامنا .. بل وجب علينا الوقوف إنصاتاً واحتراماً وقراءةً وتعلماً
من أبدع المقالات التي قد تقرأها يوماً
هاكمُ النص
حين ينطق الإنسان بجملة "السلام عليكم" يمكن أن تفهم منها بواسطة لحن القول وكيفية النطق أنه سعيد جدا لرؤيتك؛ كما يمكن أن تفهم من لحن قوله أنه تعيس جدا لرؤيتك. ولكن حين نكتب عبارة "السلام عليكم" على الورقة تفقد كل هذه الإيحاءات. الكلام المكتوب هو ما يسمى بالنصوص، وهو بطبيعته يفتقد لحن القول بخلاف الكلام المنطوق. ولهذا تعد اللغة المكتوبة مرحلة مختلفة
عن الكلام.
وقسم العلماء في تراثنا الفكري مراتب الوجود، ووضعوا النص المكتوب كآخر مرتبة للوجود، فقد تناول محي الدين بن عربي و كذلك أبو حامد الغزالي في كتابه مقدمة المستصفى -التي اعتبرها مقدمة جميع العلوم- مراتب الوجود. يقسم الغزالي مراتب الوجود إلى أربع: المرتبة الأولى هي الوجود العيني أي الوجود الواقعي المشاهد، والمرتبة الثانية هي الوجود الذهني أي الصورة التي تتكون في أذهان الناس عن الوجود العيني. ثم الثالثة وهي الوجود اللفظي أي اللفظ المنطوق. وتأتي المرتبة الرابعة وهي الوجود الخطي الذي يرسم على الورق ويتحول إلى نص محفوظ في الألواح والأوراق.
نجد في أول سورة نزلت في آخر رسالة من السماء "اقرأ بسم ربك الذي خلق". ويشرح ابن تيمية هذه الآية ويقول إن عبارتي "اقرأ" و"الذي خلق"، تجمع مراتب الوجود. فهو يشير إلى كلمة "اقرأ" بأنها الرتبة الرسمية (أي المرسومة)، ويشير إلى عبارة "الذي خلق" بأنها المرتبة العينية، ويقول أن المخلوقات كلها في المرتبة العينية. ثم تتكون الصورة في الأذهان عن هذا الوجود العيني، وبعده يأتي الوجود اللفظي الذي بواسطته ينقل الإنسان صوره الذهنية عن الوجود العيني الى ذهن إنسان آخر. وينقل هذا إلى الوجود الكتابي الذي يُوضع رمزا للنطق الكلامي.
وهناك إشارات كثيرة إلى أهمية النطق في القرآن. فالله تعالى حين يتحدث عن الخلق في هذا الكون وعن الرياح والسحاب والسماء ذات الحبك واختلاف الناس وتفاوت تصوراتهم يقول الله، بعد ذلك كله، "فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما تنطقون". يستعمل القرآن النطق لأن الإنسان لا يتشكك في الشخص الذي ينطق أمامه. والإنسان حيوان ناطق. وتنقسم أركان النطق كذلك إلى أجزاء مختلفة: ناطق ومنطوق عنه ومنطوق إليه ومنطوق به. والإنسان هو الكائن المتفرد في قدرته على نقل صوره الذهنية الى الإنسان الآخر بواسطة ذبذبات الصوت وموجات الضوء.
كل الكائنات عدا الإنسان تخرج من بطون أمهاتها وهي تحمل سلوكها غريزيا لأن الجينات تنقل الوظائف. ولذا فالحيوانات تُخلَق وتسلك سبل ربها مثل النمل والنحل، بينما الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يخرج من بطن أمه وهو لا يعلم شيئاً: "أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً". فالإنسان لا يعرف اللغة غريزيا ولكنه يولد وعنده استعداد لتعلم أي لغة، ولذا يتعلم الإنسان لغة قومه ومفاهيمهم سيميائيا. فالطفل قبل أن يتكلم وقبل أن يفهم الكلام تنتقل إليه القيم والمفاهيم الفكرية العميقة وحتى اللاشعور بواسطة لغة السيمياء أي بسحنة الوجه وحركات الجسد ممن حوله. ووجه الأم ونغمة صوتها هي اللغة الأولى العميقة التي يتعلم الطفل منها القيم الأساسية. فالأم تكون أحيانا مستبشرة سعيدة أو غاضبة مكفهرة أو حزينة باكية والطفل، عند تكرر هذه الأوضاع، يربطها بالحوادث والظروف التي تولد سيمياء الوجوه ونغمات الصوت. وكل هذه لغات وأدوات تنتقل بواسطتها أعلى القيم وأسوأها تلقائياً قبل أن يبدأ الطفل بتعلم النطق والكلام. ولغة السيمياء ولحن القول أصدق من لغة الكلام، حيث لا يسيطر الإنسان على المشاعر وتأتي عفويا، بينما الكلام أكثر إمكانية للسيطرة على مضامينه. ويكشف الطفل في وقت مبكر أننا نقول أشياء لا نفعلها ولا نؤمن بها.
يقول الله تعالى عن اللغة السيميائية: "ولتعرفنهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول". فمن هنا علينا أن نكشف الحق في هذا النطق الذي نمارسه وأن يطابق كلامنا سلوكنا وأن لا نكون من الذين يقولون ما لا يفعلون، وهو من أكبر المقت عند الله وهو من أكبر ما يفسد الإنسان ويحوله إلى أسفل سافلين بدون أن يتحول إلى أحسن تقويم. وهذه مواضيع علينا أن نتعلم تضاريسها ودروبها، لأن الإنسان لا يتعلم أو ينقل المعرفة إلا من خلاله حواسه والرموز التي يضعها. فالرؤية العينية للشيء أقرب للتعرف عليه حيث هو واقع مشاهد أمامنا. وحين ينتقل هذا الواقع المشاهد إلى الذهن يمكن أن ينتقل بصورة خاطئة. فالمرتبة الأولى في الوجود هي الواقع المرئي الواضح، ورغم ذلك لا يمكن أن نثق بمشاهداتنا لها لأن الحواس خادعة، وأكبر دليل على ذلك الشمس التي يضرب بها المثل في الوضوح والظهور البيّن. فقد كان هذا الواضح خفياً وفُهم بشكل خاطئ حين ظننا أن الشمس تدور حولنا. عاشت البشرية حياتها إلى وقت متأخر جدا وهي تفهم سير الشمس بشكل خاطئ. وكانت حركة الشمس يقينية وعينية وخادعة جدا في نفس الوقت. ثم كشف الإنسان هذه المشاهدة الخاطئة فتبين بعد حين من الدهر أن هذا الذي كنا نشاهده فسرناه تفسيرا خاطئا. وكشفنا أن الشمس لا تدور حولنا وإنما نحن الذين ندور حولها. وكان هذا انقلاب في فهم العالم حيث كان الناس مستعدين للموت في سبيل هذا التصور ومستعدين لأن يميتوا الآخرين من أجله ببرودة أعصاب ويقين مطمئن. والله تعالى حين يقول "وجعلنا الشمس عليه دليلا" للإشارة على الخطأ في تفسير الظاهرة المشاهدة. فإذا كان يمكن للناس أن يخطئوا في فهم هذا الواضح أمامهم، فما الشيء الذي يمكن أن نقول عنه أنه لا يمكن الخطأ فيه؟ ومن هنا كان "لا إكراه في الدين".
ومن المؤسف أن النصوص الدينية استخدمت ضد الكشوفات. وهذا يرغمنا على الرجوع إلى تأمل الواقع الذي هو المرجع عند الاختلاف. إن الشمس لم تتغير ولن تغير سلوكها، وإن أخطأنا في فهم سلوكها. ولهذا وضع الله لنا آيات الآفاق والأنفس على أنها المرجع للنص. فسنن الله في آيات الآفاق والأنفس لن تتغير "ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا" ومع مرور التاريخ أصبحنا نرى أنه يمكن أن تنخدع حواسنا عند الانتقال من مرتبة الوجود الأولى فتصير لدينا صور أو تصورات غير صحيحة في الذهن. ويمكن أن يحدث الخداع كذلك عند الانتقال من الصورة الذهنية التي هي في المرتبة الثانية إلى الكلمات التي ننطق بها وهي المرتبة الثالثة. ويحدث تبديد وتقصير وعجز عند نقل تصوراتنا بواسطة الكلمات إلى الآخرين. وكم من نزاعات تنشأ من اختلاف النطق والكلمات عن التصورات الذهنية. ويحدث تبديد أيضا عند انتقال الكلمة المسموعة إلى رسم وصورة في الورقة. فالكلمة تبدأ في رحلتها بالتبديد والتبذير في كل انتقال من مرحلة إلى مرحلة. والنص، مع عيوبه وضعفه في نقل الواقع، شيء ضروري لا يستغنى عنه لأن الإنسان، قبل اختراع الكتابة، لم يكن يحافظ على تصوراته لأنها كانت تموت معه. وبعد اختراع الكتابة صارت أفكاره خالدة غير قابلة للفناء.
كلما رجعنا إلى الواقع وجدناه كما هو، ولن تتبدل سنن الله ولن تتغير. في مجتمعات أخرى صارت آيات الآفاق والأنفس هي مصدر المعرفة بدل النصوص. ونحن إن رجعنا إلى آيات الآفاق والأنفس –أي الواقع- فستشهد بصدق مفاهيمنا عن الكتاب وخطئها. ومن هنا انقطع الوحي لأن التاريخ سيدل المجتمع إلى الحق. أيها القارئ الكريم إن تذكر هذه الأمور والعودة إليها ذكرى لتصحيح أوهامنا. وهي منهج للتعامل مع الواقع والنص ومعرفة العلاقة بينهما.
No comments:
Post a Comment