نظرة إلى التلفاز كانت كفيلة بأن تسحب مني كل الحواس، كل الهواء، وكل رغبة في العيش. كفيلة بأن تلبسني معاناتهم
وتنفث في وجهي عاراً ليس علي أن أحمله .
مرتْ أمامي صورهم وكأنها مزيجاً صارخاً مختصراً لكل حروب شعوب العالم جُسِّدَتْ فيهم.
لم تكُن هي شاشة تلفازي التي أعرفها .. بل طاقة جهنم لوحتها سوداء وإطارها أشواك. لم يستوعب عقلي هذا الكم من الأشخاص حُمر الأجساد القادمين من الحمم وهم يركضون باتجاه واحد حتماً إلى قبور أو بيوت مهدورة مهجورة .. لا أعتقد، ولا فرق بعد اليوم. يحمل كل شجاع منهم قتيلاً بين ذراعيه وقهراً بين الضلوع.
لم استطع التعرف على ملامح الخوف في هذه الوجوه التي تنزف رعباً وتدمع خذلاناً .. خذلاننا وليس خذلانهم !
لم أحرك عيناي عنهم أريدهما أن ينظران .. أن يبكيان. وأريد لهذا القلب أن يحترق .. أن يتألم. فقط تمنيتُ
لو أني امنحهم هَبّة غضب تغوص في هياج إعصارهم.
توقفتُ أمامهم وكأنه ليس هناك على هذا الكوكب سوانا يشاهد الآخر .. حيث الآخرين أصابتهم السكتة والشلل والجمود وحيث أنا ككل من مثلي أحترقُ بعذاباتهم أختنق بغصة حسرتي على أصواتهم التي تخرج
ملء حناجرهم وملئ خناجر أعدائهم.
جدير بهم أن يبكوا وجدير بنا أن نمشي منكوسي الأعلام موكوسي الرؤوس .. عندما لا يملكون غيره ولا نملك
سوى أن نتأملهم.
جدير بهم أن يموتوا قنصاً أو حرقاً، وجدير بتاريخنا أن يحيك انتصاراته أكفاناً لموتانا عندما يكون فخرنا اليوم أن نبعثر منابرنا في هتافات الهواء وتهافت الأهواء.
أحبائي هناك ..أنا لا أعرف الخوض في السياسة ولا أملك خبائثها الدفينة وأحْسِيَتها التي تخبئ سماً معسول و طلاسم تعمي العقول، وأجهل دهاليزها السوداء. وإني لأَكرَهُ أربابها. لكني أملك قلباً فُطر على الرحمة والسلام تؤذيه دمعة إن رآها .. وتهينه عذابات الآخرين. أملك أن أتألم .. أفهم .. أفكر و أتكلم. ما أراه ليس دمعة .. وليست والله بعذابات. أنتم تُبْتََرون إنساناً تلو الآخر .. تُقْتَلَعُ جذوركم تاريخاً فتاريخ .. تُنْتَهَك حُرُماتكم أرضاً فعرضا ..ونحن على مقاعدنا الوثيرة وتلفازنا آخر موديل .. نشاهِد.
العدوى قادمة قادمة للجار فجار الجار فجميع أهل الدار .. ونحن مازلنا نتفرج من التلفزيون، السلاح الملون
الذي تموت به آدميتنا جيلاً فجيل!
أوَ أصبحنا أمة الجسد الواحد صنماً أصم لا همس به و لا حراك! ألا نملُك سوى أعيننا التي تجحظ من هول ما تُشاهِد ثم لا تلبث أن تعود إلى نومِها وحَوْمِها؟!
أليس في هذه المساحة الشاسعة من شرقها لغربها صوتاً سوى ما تعلنه شاشات التلفزيون هذه من الأخبار العاجلة
ذات التفاصيل والأرقام الخيالية لخراب البشر والحجر؟!
هل أن قلوبنا نامت في ثلاجات الموتى .. وكرامتنا وُئدت في مقابر الذل التي غدت أكبر عدداً من مقابر الشهداء؟ !أوَ يعقل يا أهل العقل أن الثمن يعادل كل تلك الجثث التي ترحل عنا كل لحظة؟؟
أمي .. أبى .. أخوتي هناك، لستم أنتم من يموت فقط .. نحن هنا أيضاً نموت. لستم أنتم من تُقْتَلَعُ أشجار زيتونه وتسلَبُ منه ورقات الحياة، لستم من تُخْتَلَسُ عزتَه من أرضٍ وعِرض .. إننا
أيضاً لمسلوبين.
أنتم نلتم شرف الموت دون الصمت، ونحن لنا ذل البقاء دونكم.
لا تستودعونا أمانتكم فلسنا أهلها. نحن .. من هنا من يحملكم هذه الأمانة. اصرخوا .. اهجروا الصمت
.. اجهروا بالصوت. تجلدوا بـ "الله أكبر" ... تجندوا بـ "نصراً من الله وفتحٍ قريب". اقبضوا بيديكم حجارات أرضكم المقدسة واقذفوها سجاجيلاً من "أشهد أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله" في وجه حديدهم الصدئ ..
لا تسألونا المساعدة فلسنا أهلاً لها، وسؤال غير الله مذلة (!!)لا تطلبوا منا أن نهِبَكُم شجاعتنا ونحن من نَهَبَكُم كُنْه الحياة كي نظل في جحورنا المزركشة ننعم بالحُطام.
نستودعكم عند الله أمانة من ويلات الهوان في حفظ جيوش من عند الله عندما تشح جيوش البشر. فإنّا سنظل نشاهدكم بأم العين بينما أنتم تشاهدون نهاية الحياة بأم الموت.
أنتم يا من تجاهدون بحجاراتكم بثباتكم، كثر
الله من أمثالكم ..
أمتي .. كم صنم مجّدته لم يكن يحمل طهر الصنم. لا يُلام الذئب في عدوانه إن يكُ الراعي عدو الغنم!
تحيتي لك .. عمر أبو ريشة
No comments:
Post a Comment