August 23, 2007

المرأة العجوز


قالوا لي: أدخلي، هي هنا. طرقتُ الباب بهدوء مؤدب لم يتجاوز الطرقتين..
لم أسمع صوتها المتعرج يجيب .. لم ألْمح جسدها المتثاقل وهو يواجهني. كانت ساكنة متكئة على وسادة ذكرياتها. هناك عند حافة نافذتها أطاحَ ثقل السنين برأسها يمنة في حضن كفها. وقفتُ في منتصف الغرفة أتأملها، باحثة عن شيئ ما يقول لي ماذا يحدث معها ..
كنت أشاهد في جلوسها لوحة مرسومة رسمة عاتمة، هائمة. اختلطت فيها ألوان الحزن التي لم تتجاوز لونيَ العتمة و شيئ من ضوء آتٍ من خلف نافذة رقيقة القضبان، وكأن موعداً قدرياً يربطها بالنافذة .. وكأن لقاء قمرياً يسلبها حتى الهمس ..
عالمها لا يتجاوز هذه الجدران الأربعة. سافرت بين أرجائه لتستقر في حضن دنياها التي لم تعرف سواها .. ولا تريد هي أن تعرف سواها ..
لا تبحثي عنها في عباب الظلام، قلت لنفسي، .. فهناك عند آخر الغرفة المستطيلة حيث يطل نور بسيط تجدها .. لا يظهر من ملامح وجهها المجعد سوى ما ذاب فيه من ضوء .. وكأنها ريشة فنان مسافرة بين هذه الخطوط البهية. وذاك البريق الذي سرق لمعتين من ضي عينينها الصغيرتين .. كان لهما حكاية.
لم تنظر إلي عندما ألقيتُ عليها التحية .. فهي لم تكن هنا . نظرتُ بهدوء لا أظنه يشبه هدوءها إلى حيث تنظر. نظرة لعينيها ثم إلى من تعانقه بكل هذا الشرود .. لم أرَ سوى سواد الليل .. وطاقة من بدر .وترَ هي سنون الويل ..
هذه العجوز الملامح الطفلة النظرات كانت تقرأ في صفحة الليل حياتها كلمات طارت معانيها على عجل .. وتستجدي أسطر من العمر لم تكتب بعد .. على أمل !
أخيراً تنبهت لوجودي. التفاتتها كانت بطيئة ولا أعرف لماذا كنت أتوقع غير المتوقع .. انتابني إحساس بين القلق واللهفة . 
قامت من بين أنقاض السكوت .. مدت ذراعيها على مصراعيها وكأنها تحتضن الدنيا وليس أنا . تبسّمَتْ. غمرتني ابتسامة الأطفال في ثغرها المكلوم وأغرقني الحنو الذي لفّ كياني وهزّ كوامنه، ومع عناق يديها نامت يدي في استسلام. هزمتْ صباي وحيويتي في لحظة ترحاب أهدتني إياها ..كانت ظرتينا احتياج يخاطبُ شوق .
سائلتُ نفسي: يا ترى من فينا يحتاج من؟ أتحتاج هي إلى ضحكات الصبا في شبابي الذي ترثي نفسها به كل ليلة، أم كنتُ أنا تلك القطة التي تُلَعْثِم خطو صاحبها كي يرنو إليها !
أجلستني بجانبها .. تحدثت أمامي كثيراً .. ثرثرة مكررة .. لكنها كانت من صميم النقاء .. من عميق البقاء .. أقلها بسمة وأكثرها حكمة ..
كسرتْ الجمود الذي صنعته حيطتي بفعل الزمن ببراءتها واستسلامها ..
هو أول لقاء بيننا بدأت دقائقه من زمان أزِلْ .. أو هكذا اعتقدتُ
يا لشيبها ابن الربيع، ويا لهدوءه هذا الضعف المستكين، يُجبرُك على الصمت أمامها. قد علَّمَني حكمة تاهت عني. أن أرْذلَ العمر أقواه وأقومه .. أروعه وأعدله .. أكثره عطاء. كيف أني لم أتنبه إلى ذلك من قبل؟

No comments: