لدي مفاهيمي الخاصة عن علم الصوت والموسيقى ومزيجهما الغِناء استقيتها من أساتذتي الذين أمضيتُ معهم الساعات والشهور والسنين كي أتعلم، وكنتُ في كل مرة أتعلم الجديد من زوايا مختلفة
الصوت الذي يستطيع التلحين والإطراب هو الصوت الذي أقصده، والمدرسة التي أقصدها هي التي تُهَذِّب وتصقِل هذا الصوت، ثم في ذات المدرسة يتعلم حرفة عمل الخلطة السرية لخلْق التناغم بين اختيار الآلات الموسيقية وتناوبها في العزف بين مقطوعة وأخرى ثم التناغم بين صوت الآلات الموسيقية والصوت البشري ثم التناغم بين هذا كله ومضمون الكلمات
ومن الجانب المجاور لهذا الأساس هناك فن "ذكاء" اختيار اللحن والكلمات أضف إلى ذلك فن التعامل مع فريق العمل ومع محيط العمل ومع الإعلام ومع المجتمع وهذا كله يغلفه الغطاء الشفاف الذي يعطي الشكل النهائي وهو الرسالة التي يود تحقيقها المطرب من كل ذلك
هناك نوعين من المطربين .. من يود تحقيق هدف شخصي وهنا لا نسميها رسالة، وآخر لا ثالث له ، من يود تحقيق رسالة وهي تحتمل أن تكون شخصية لكنها تعم لتصبح غير شخصية وهنا هو يتصل بأكثر من مضمون لهذه الرسالة، فرسالته إما تكون روحانية .. دنيوية ..، وهي إما هادِفة أو مُسْتَهْدِفة
هذا ونحن هنا نتحدث عن صاحب الصوت الجميل بالفطرة
ما يقض مضجعي منذ سنوات طويلة هم مغنيون، ولا أقول مطربين على الأقل من وجهة نظري، توضع أسمائهم المشهورة جداً في قائمة المطربين المتميزين
وضعتُ نفسي في جسر الحياد وظللتُ أتأرجح يمنة ويسرى كي أشاهد عن كثب ومن مكان عالٍ واضح من يسبح عند الجانبين، من يملكون الصوت الطربي ومن يقول الناس أنهم كذلك، هذا وأنا أضع جانباً موضوع المدرسة والأهداف وما إلى ذلك
ولكي أسكِّن العصب المتوتر عندي ارتكزتُ على مهدئ يجعلني أقرر بشئ من الراحة دون الخوض في الحيرة
المسرح
كان دائماً الضوء الساطع الوحيد الذي يشع من خلاله الفنان الحقيقي ويخبو به الفنان الفالصو
فالمغني كما الممثل .. يهاب المسرح ليس من الجمهور-فوبيا وإنما من شئ أعمق
على المسرح لا فلاتر ولا ماكياج ولا تكنو ولا ميووت ولالالا أي شئ .. هكذا انت والجمهور في عراء الحقيقة
فالممثل المتأتئ المتصنع مثل المغني المنشِّز خالي الأداء الصوتي .. كليهما يفضح نفسه على المسرح مهما حاول أو ادَّعى الاحترافية في أي لقاءات حوارية بعد ذلك .. وحتى مع تصفيق الجمهور الذي يشمه كالهيروين ليقنع نفسه بشئ فإنه يعود ليصحى والحقيقة تظهر من عينيه كلما نظر إليهما في المرآة
بالنسبة لي
الصوت جميل عالي المشاعر دافئ .. واختياراتي الغنائية التي اعتمدها للتمرين و "المذاكرة" كما احب أن أسميها، اختيارات مميزة .. هذا ما ظل يقوله كل مستمع سواء من عامة الناس أو من خاصتهم من أهل المجال، كنتُ دائماً أركز على الجانب الآخر من الآراء لأني كنتُ دائماً أنشدُ الكمال الذي شاركني لحظات الدراسة والبحث والتدقيق في هذه المدرسة
لكني آثرتُ اعتزال الخطوات القليلة التي مشيتُها قدُماً .. نظراً لصعوبة تحقيق المعادلة التي في ذهني، وليست هي مجال كلامنا هنا
والسؤال : أين هي المدرسة التي تعلمتي فيها؟ والسؤال الآخر ما هي تركيبتك الفنية؟
والإجابة يعرفها الجميع .. الطرب الأصيل بمختلف أجياله .. الموسيقى بمختلف مدارسها واتجاهاتها
والتركيبة الفنية هي خليط فيروز و نجاة الصغيرة و سعاد حسني "التي تغني"، أي أنك قد تضع اسمي في قائمة أنغام .. غادة رجب .. ريهام عبد الغفور .. ومن مثلهم
وعندما يأتي الأمر لأقل من هذا الكيان الفني الرائع تتأذى أذناي وأتلمَّسُ الفرق فوراً، فمن يعتاد على مستوى معين لن يعجبه الأقل منه .. وأنا في هذا الشأن بنت بشاوات من سلالة ملوك وسلاطين .. أيْ والله
والآن فليسامحني من سأذكر أسمائهم هنا، فالحوار هنا هو فني نقدي بحت حيث أني مازلتُ فوق الجسر
نحن الآن جمهور حي أمام مسرح حي
نعلم أنه ليس كل حفلة موسيقية تحتوي على فرقة موسيقية مكتملة الأركان كي تعطي الأداء الحي حقه من القيمة الفنية إلا من رحم ربي
سأضع أسماءً مجلجلة يصفق لها بل ويصرخ لها طرباً العديد منَّا
نوال الزغبي .. محمد فؤاد .. ميريام فارس .. هيفاء وهبي .. شيرين وجدي .. باسكال مشعلاني .. إيلين خلف .. وطبعاً المزيد
فليسامحوني على كرهي للنشاز الذي يجعلني أفر من الصوت ثم لثواني أعود لأفر من الصورة .. أو لا تسامحوني .. مدرسة وطي الصوت واتفرج هي مدرسة لم ارتادها ولا أظنني سأفعل
في حوارات أخذ ورد مع فنان، قال لي : طالما أنه يلحن صوته بشكل جيد فهو مطرب، وأنت اليوم، أي أنا، في زمان الميكسر والسي دي، يعني مش مهم هو كيف عامل على المسرح لأنه نسبة ضئيلة جداً تسمعه حياً على المسرح مقابل الآلاف التي تسمعه سي دي، وهنا المونتاج وتنسيق الأغنية يلعب دوره
وهنا أجدني على لساني مئة رد لكني أسكت لأفكر في منطق جديد
قديماً كان الأساس هو الحفلة ويأتي دور الاستديو لتسجيل وتوثيق الأغنية، فقد كانت تُغنَّى الأغنية لأول مرة على المسرح وليس على الاسطوانة، واليوم العكس هو الصحيح، الأول يطلع الشريط أو السي دي وبعدين يتعمل حفلة لمحتوياته .. وتُقدَّم الحفلة بكونشيرتو غير مكتمل على الأقل مثل الذي نسمعه في السي دي
خوض المسرح كخوض حرب أنت تواجه الجميع بما تملك لذلك يجدر به أن يستحق وأن يخرج بطلاً، لذلك كان مطربي تلك الحقبة جهابذ وبحق سلاطين طرب، لكن عندما يتعود المغنيون على الغناء في غرف مغلقة لا خوض فيها ولا حِراك فلن يضير شئ إن كان صوته نص تون ونص كم، ثم يعتمد على زيادة المؤثرات البصرية بين أضواء ونطنطة ودستة بنات من غير هدوم ومطربة يادوب تقول كلمة ف دقيقة ثم ترقص ووتتمايل ساعة
ولهذا زمان كان الأغلب أصحاب أصوات رخيمة رشيقة وأصحاب عقول نابغة وفكر مثمر، واليوم يغلب على الأصوات أنها نشاز وضعيفة ولا تملك في أدنى افتراض أي ثقافة موسيقية لكنها مشهورة ويُضرِب لها ألف حساب، ولا أعرف بالظبط مدى علاقة جمال الصوت بالحقبة رغم وجود الترابط واضحاً
وبالعودة إلى المضمون .. فمع بحث متواضع قمتُ به من عدة سنوات وجدتُ ما يلي
منذ عشريات القرن الماضي حتى اليوم
مستوى الأداء الموسيقي الحي والمسجَّل كان بارعاً حتى سبعينيات القرن الماضي
بداية الثمانينيات حتى التسعينيات كان في أسوأ حالاته للمسجَّل فما بالك بالحي
الألفية الجديدة أفرزَت تقنية جديدة للأداء الموسيقي لكنه يُقدَّم بشكل جيد للمسجَّل، أي في الاستوديو، وتتفاوت جودته واتقانه على المسرح حسب الفنان
مستوى الأداء الغِنائي حتى سبعينيات القرن الماضي كان تعم نسبته ليفوز بها أصحاب الأصوات الطربية الجميلة، وهنا لا أعلم ما أقول للست أم كلثوم عندما قالت لعبد الحليم يوماً "انت فاكر نفسك مطرب يا ولد؟"، فعندما نعلم من الست أن عبد الحليم لم يكن مغنياً جيداً في نظرها فإن نظريتي الخاصة تتحول إلى معايير مختلفة تقول أن كل جيل يرى الجيل اللي بعده بمستوى أقل، والجيل التالي يرى السابق بعين مبهورة ويقول: الله يرحم أيام زمان، هل يعني هذا أننا بعد خمسون سنة من الآن سنترحم على شعبوللا وعلى هيفاء وهبي ونجلاء مثلاً؟؟ هذا إن ظل هناك أحداً يذكرهم
أما بداية من الثمانينات والتسعينات فقد غلب عليها أصوات هابطة وأغنيات جاية من أبو زعبل، طبعاً هذه نسبة أغلبية، وما بعد ذلك بدأت تظهر في الأجواء نسائم أصوات فوق رائعة تتوازى في دفَّتِها مع النوعين الآخرين المغنيين ذوي الأصوات الجيدة لكن غير المصقولة والمنشِزة والآخرين مرتزقة الفن من أجل الشهرة والمال
الكلمات أو في كلمة أخرى المضمون
من هنا نرى أهداف الفنان أو رسالته تظهر في خلفية الصورة
فكلمات الأغنية تمثِّل اتجاهاً لصاحبها .. ونلاحظ أن القيمة الموسيقية ترتفع أو تنخفض بارتفاع أو انخفاض قيمة ومضمون الكلمة التي تُغنَّى
طوال تاريخ الموسيقى العربية نستطيع أن نرى هذه الاحصائية واضحة جداً
لو سجلناها بالنسبة المئوية للإجمال
80% كلمات عاطفية
15% وطنية حماسية وجدانية وأطفال
5% دينية روحانية
وقد تزيد نسبة الأولى وتقل الأخريتين مع مرور الوقت، علماً بأن الوقت طرح لنا نوعاً جديداً لم يكن في الحسبان
الأغاني الإباحية "تيمناً بمسمى أفلام إباحية"
وبقدر ما يبدو على هذه التسمية أنها مجازية إلا أنها حرفية في الصميم
الكورال .. فئة غلبانة بحق .. لم أسمع لها حساً طوال عشرات السنوات ولم التق باسم واحد انفرد بتميزٍ ما .. ولم أعرف عن أحد خرج عن الطابور الروتيني ليأتي بمذهب فني جديد أو طريق جديد يتميز فيه عمَّن سبقوه .. هم نفس المجموعة التي نسمعها تردد وراء المطرب ونراها مجتمعة في خط واحد في الحفلات الغنائية ليفعلوا نفس الشئ، وفي أحيان كثيرة يكون أدائهم الحي، هم أيضاً، دون المستوى
نأتي إلى الفيديو كليب
مفهوم الفيديو كليب يحمل مضامين فنية تعبيرية عالية الدقة والتأثير، وهنا أنا اؤيدها، لكنها ومنذ بداياتها في العالم العربي مع النصف الأخير من القرن الماضي فهي في كل مرحلة كانت تشكو من علة
بداية كانت الصورة والفكرة والإخراج بمستوى ردئ .. ثم مكرر ونسخة طِبق الأصل من الكليبات الأجنبية وأنا هنا لدي أمثلة أحدها في مثال واحد كليب لمحمد فؤاد مأخوذ "زيروكس" من كليب لمطرب غربي اسمه "سِيْلْ" .. ثم بعد ذلك أيضاً وأيضاً تقليد لكن الصورة أصبحت سينمائية والألوان حلوة والفساتين حلوة وكله حلو لكن مع خلو المضمون والفكرة الجيدة، هذا ولا ننسى فضل التكرار المُتقن للتقديم الموسيقي، ولا أقول "صناعة" الموسيقى، لأن كل الذي يُقدم لا يرتقي إلى مسمى "صناعة" بمفهومه الفني والإنتاجي
وهنا قبل أن يشير أحداً ليقول لي أن الكليب الفلاني أو العلاني أتى بفكرة جيدة سيكون علينا البدء في مناقشة ثانوية عن مفهوم "الفكرة الجيدة" كي نستطيع أن نعتمدها أو لا
الكليب هو ببساطة نعرفها جميعنا .. هو الحكاية المصوَّرة تناغماً بين الكلمة والموسيقى وأداء المطرب ..
قليلة هي المرات التي بكيتُ فيها من تأثير هذا التناغم .. مثلاً كليب شيرين "عايزة ألَملِم جرحي" و إيهاب توفيق "أنا ع الجراح قادر" .. والأمثلة من بلاد برة كثيرة مثل اغنية توني براكستون "لا تكسر قلبي" .. هذا غير كليبات أغاني سيلين ديون "دون استثناء"
عن الدور الثقافي والاجتماعي للفنانين
قد تدمع أعين الناس حينما ترى فنانهم المحبوب يربت على كتف شيخ في مأوى للعجزة أو يزور مدرسة أطفال أما إلى ذلك .. لكن لو فركنا أعيننا لنرى بوضوح .. هل دور الفنان بعد الغِناء وأحياناً الغِناء والتمثيل معاً، هل يتوقف عند صورتين للصحافة ومثلهما للتلفزيون؟؟
فلنعلم أن الفنان هو ضمن من يشكِّلون ثقافة المجتمع ثم مضمون هذه الثقافة في كتب التاريخ بعد سنوات، وها نحن عندما نريد معرفة ملامح حقبة ما لبلد ما من كتب التاريخ نراها تتحدث عن كل شئ حتى الفنون والموسيقى، ليس صحيحاً أن الفن للتسلية فقط .. وليس صحيحاً منطق وجود تسلية رخيصة أو قيِّمة، التسلية شئ نفعله لتعديل المِزاج وليس تدمير العقل، وهل مزاجي رخيصاً كي اُهديه الرخيص؟ ولماذا يجب أن تقترن التسلية بالتفاهة؟
من هذا المنطَلق .. ماذا يفعل أهل الطرب هذه الأيام غير الغِناء خصوصاً في حقبة نعيش مرحلة انحطاط الدولة كما يخبرنا ابن خلدون، حقبة التدني في كل مناحي الحياة
كانت أم كلثوم تعلم أن أغنيتها التي ستغنيها هذا الخميس حياً على الهواء هي إشارة عسكرية للجنود المصريين في الحرب، يا ترى .. ثديَي هيفاء وهبي و دانا ونجلاء إشارة لماذا؟؟
أطفالنا
نحن مجتمعهم المسئولين عن المفاهيم التي تدخل أدمغتهم تماماً كما الطعام الذي يدخل في أحشائهم .. الثروة القادمة في غد
أين إعلامهم .. مجتمعهم .. أدبهم .. أنشطتهم .. فنهم؟؟؟ لماذا هم أكثر المُهمَّشونَ في حكاية "دوخيني يا لمونة" التي نعيشها؟
هل تعلم أن عدد إجمالي برامج الأطفال في القنوات العامة العربية لا تتعدى الـ 2% فقط من إجمالي البرامج على مدار السنة؟ .. وهذه معلومة جانبية لا تخدش صلب الموضوع بأي حال
بعد العلمانية والإلحاد اللذَيْن ننشرهما لهم في وسائل الإعلام من وراء حجاب الكواليس، هل نستطيع أن نعتبر أن شخبط شخابيط .. بوس الواوا .. حِب بابا حِب حِب ماما حِب .. هي الوارث منا لهم بعد عقود من السنين؟ لا أعلم
والآن سأتحدث عن شئ يعذرني أهل الفن لو قلت أنهم لن يستوعبوه مما يجعلهم يتهموني بالزندقة والهرطقة وشوفة الحال
التوجيه النفسي للأغنيات التي تقدم ويتأثر بها المستمِع ثم بعد حين تصبح موجِهاً خفياً "لا واعي" لمدركاتهم وتصرفاتهم بل وقناعاتهم
مبدأ الحسرة والتذلل في الأغنيات يوجه المشاعر إلى تقبلها ثم اقتنائها .. وكذلك الأمل وحب الحياة
إيهاب توفيق، سواءً استهدف ذلك أم لا، قدم لنا مثالاً رائعاً هنا في نفس الأغنية "أنا ع الجراح قادر"
في هذه الأغنية برمجة إيجابية .. تدفع النفس إلى مقاومة الخنوع .. لكن في أغنية أخرى يا إيهاب هناك أغنية "الأيام الحلوة" ففيها قنابل سلبية
والحال هكذا بين أغلبية توجيهها سلبي مع اختلاف المضمون، وأقليات إيجابية
كل شئ نفعله في حياتنا هو سلاح من بين ذلك الفن سواء كنا نغني أو نمثل أو نرسم أو نُشعِر .. الخ، وهو في الحقيقة سلاح من نوع خاص، فهو السلاح الذي إذا ما استخدمناه الآن يصل آخره في مستقبل بعيد مروراً بمستقبل قريب، وعند حُسن استخدامه هو أمة تنهض، وعند سوء استخدامه هو انتكاسة وحقبتنا خير دليل
غنيلي شوي شوي .. خْطَيْ .. سامعاني يا ست؟؟