يقول مقالنا
يراد بالسلطة الرابعة، الإعلام وما يقوم به من دور الرقيب والناقد لمؤسسات المجتمع والدولة، بهدف التقويم والتسديد والبناء. وإنّما وصفت بالرابعة لأنّها تأتي بعد السلطات الثلاث الرئيسة، فقد قسم الفيلسوف الفرنسي "مونتيسيكيو" السلطات إلى ثلاث سلطات، وهي: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، إلى أن جاء الفيلسوف الإنجليزي "إدموند بروك" وأعلن الاعتراف بنفوذ الصحافة وسماها السلطة الرابعة حيث قال: (ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف البرلمان، ولكن في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة وهي أهم منكم جميعا).
استخدم مصطلح السلطة الرابعة بكثرة منذ أول ظهور له في منتصف القرن التاسع عشر، انسجاماً مع الطفرة التي رافقت الصحافة العالمية آنذاك، ليستقر أخيراً على معناه الذي يشير بالذات إلى الصحافة وبالعموم إلىى وسائل الاتصال الجماهيري، كالإذاعة، والتلفاز. كما يستخدم هذا المصطلح في سياق إبراز الدور المؤثر لوسائل الإعلام تجاه المجتمع، ليس في تعميم المعرفة والتوعية والتنوير فحسب، بل في تشكيل الرأي، وتوجيه الرأي العام، والإفصاح عن المعلومات، وخلق القضايا، وتمثيل الحكومة لدى الشعب، وتمثيل الشعب لدى الحكومة، وتمثيل الأمم لدى بعضها البعض.
وتتقدم أهمية السلطة الرابعة على السلطات الثلاث لسبب واضح وهو أن السلطة الرابعة تمثل الشعب، وتمارس دورها باستقلال تام. إذاً من حق السلطة الرابعة أن تنافس السلطة الثانية، وهي الحكومة بأجهزتها التنفيذية في متابعة التحقيق في قضايا تهمّ الرأي العام، وهذا الحق لا يمكن أن يسقط إلاّ بقرار من السلطة الثالثة، أي السلطة القضائية، وهو ما يكشف عن حكمة السلطة التشريعية، وهي السلطة الأولى المنتخبة من الشعب.
ولئن كانت السلطة الأولى والثانية هي محك إسقاط القرارات إلى السلطة الثالثة، فإنه قد يتم تهميش دور السلطة الرابعة من فضائه المفتوح للمجتمع، إلى الاستظلال تحت مظلة زاهية الألوان، تغطي السواد القاتم للأدخنة المنبعثة من السلطات الثلاث، مما يجعل الإعلام في حالة تزييف الحقيقة، وتجميل القبيح، تحت طابور المنافقين والمشبوهين، المندسين تحت مظلة الإعلام الملون، ليحدثوا ما يخص مصلحتهم في خداع الرأي العام، ويفبركوا وقائع الأخبار ونتائج الانتخابات، ويشبعوا المجتمع بالثقافة الزائفة لصالح فئة معينة من الناس، وهو ما يعرف عند اصطلاح الإعلاميين بالطابور الخامس.
الطابور الخامس تعبير نشأ أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي نشبت عام 1936م، وأول من أطلق هذا التعبير أحد قادة القوات الزاحفة إلى مدريد، وكانت تتكون من أربعة طوابير من الثوار حيث قال: "إن هناك طابورًا خامساً يعمل مع الثوار من داخل مدريد" ويقصد به مؤيدي الثورة من الشعب. وترسخ هذا المصطلح في الاعتماد على الجواسيس في الحروب، واتسع ليشمل مروجي الإشاعات، ومنظمي الحروب النفسية التي انتشرت نتيجة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والغربي. ويشمل هذا الطابور مسؤولين وصحفيين وبعض من يزعمون أنهم مثقفون.
ويهدف فئة الطابور الخامس بإعلامهم وعتادهم إلى تهويل قدرة العدو و تهوين شأن الأمة، والمنافقين المذبذبين من العملاء الخونة والانتهازيين الذين لا يشغلهم سوى مصالحهم الخاصة، و يقوموا بطريقة أو بأخرى كتم أصوات كل من يفكر في نفي التهم والأكاذيب الإعلامية، ليتم اتهامه بالعمالة والإرهاب والتخلف. وفي ظل تهالك المؤسسات الإعلامية، وتعاظم الرقابة والوصاية الحكومية لها، صارت الحاجة إلى إعلام يتكلم باسم الحرية المنطقية للشعب من الأمور الملحة لتسيير العدالة الاجتماعية، باعتبار أن الإعلام سلطة رابعة لها من التسلط ما للسلطات الثلاث الأخرى.
من هنا كان لزاما على المؤسسات الإعلامية الذين تجاوزوا الزمن مسافات وأميالا في ظاهر الأمر، فك القيود لعقليتهم الإعلامية المتوقفة عند زمن مضى، وذلك عندما يحاربون بعض الإعلاميين، بحجة اختراق حرية الصحافة، على الرغم أن شعار كل إعلاميي العالم هو إظهار "الحقيقة للرأي العام"، لكن تلك المؤسسات الإعلامية أوجدت خطوطا حمراء وهمية، بمساعدات خارجة عن إرادتها، تعمل لصالح شرذمة قليلة من أصحاب التوجّهات المشبوهة، والأفكار المضلّلة من الطابور الخامس، لتمارس أبشع صور التشويه والإقصاء والهدم، وتكبل كل من يفكر في تجاوز تلك الخطوط، وتلقي بهم في قارعة الطريق، لتفتح الباب على مصراعيه لكل طامح يريد الشهرة ليمارس الدور نفسه بأسلوبهم الوقح، في الوقت الذي يغلق الباب بمصراعيه في وجه الغالبية ممّن يخالفهم الرأي والتوجّه، ويفضح ممارساتهم وافتراءتهم، ويكشف عن جهلهم الفاضح، إلا في حدود ضيّقة جدّاً من باب ذرّ الرماد في العيون.. حين يحصل ذلك؛ سيمحى مفهوم السلطة الرابعة من قواميس الإعلام، ليبقى الإعلام طابورا خامسا حتى إشعار آخر.