February 8, 2012

الولدُ عاق والوالد مُعاق!



عندما ثارَت قضية أخطاء الهيئة في السعودية ثم أخبار توأَمَتِها في مصر، وكان ذلك منذ شهر تقريباً، كتبتُ مقالي (وما أدراكَ ما العشاء الأخير)، أتيتُ في نصف المقال وكتبتُ

(نقاش السلفي الوهابي مع مُلْحِد، ينتهي بسب وشتم ولعن المُلْحِد. بيدَ أن المنطق يستدعي السماع له لفهم سبب وأبعاد تفكيره بتجرد عن العاطفة والقناعات الشخصية، ثم تفتيح ذهنه على شبابيك كانت مغلقة داخل عقله.
وما يحصل في مثل هذا النوع من النقاش، أنك تحدثت، وفي الغالِب بصوت عالي مليئ بسرد النصوص، وتحدثت أكثر منه، وتركته هكذا دون أن تكسبه لطرفك، بل تركته وهو يحزم حقائبه لمنطقة أبعد عن الله. إن اكتسابه في طرفك مهم جداً طالما أنك تملك القناعة الأوضح والأكثر صدقاً. وهذا الموقف عينة عن ضيق الأفق والخوف)


هذا المشهد يحدث دائماً وليس شرطه الملحد، تجده حتى بين السلفي الوهابي والمسلم الوسطي

وقتها لم يأتي على بالي أن يُحكَم على هذا "الضد" بالقتل بعد تصنيفه بالإلحاد والكفر، بعد أن أعلن توبته وتراجعه عن كل قوله أكثر من مرة! حسناً، لم يكن خيالي واسعاً لهذه الدرجة حين كتابة هذه الجملة بإضافة حد القتل كنهاية حتمية، لكن عدستي المُكبِّرة شملت الرؤية اُفقية ورأسية.


 أنا أتحدث عن حمزة كشغري تحديداً فهو حديث الساعة. حتى الأمس لم أكن أعلم بقصته ولا مَن هو، ثم تتبعتُ قلمه، ولم أرَ ملُحداً، بل مؤمناً! هو فعلياً مطارد الآن مهدور الدم، ونحن حتماً خسرنا شاباً إضافياً ضمن ما نُضيع كل يوم من ثرواتنا البشرية دون تقديم أي محاولة للحد من هذا الإهدار المسرِف في أبناء الاُمة

حمزة شاب لم يتجاوز الـ 22 من عمره. لا يمكن وضعه في قائمة الملحدين أو المرتدين، وليست كلماته إيذاناً صريحاً بأنه كذلك. كل من يعرفه يعرف أنه الشاب الهادئ المتدين المثقف، حافظ القرآن الكريم يدرسه في الجامع، محب الله ورسوله. 


ستخدعك في سطوره أن تظنه الكاتب ذي الأربعين حياة بأناقة قلمه وبعده الفلسفي. وشطح الفلاسفة من الأمور الخطيرة إذا ما استوت بين يدي الأمي فيها، فهي تبدو كاللغة القديمة برموزها الغير مفهومة والتي قد يعتبرها البعض طلاسم تنفث بكفر، أو تبدو للبعض الآخر كعاهرة تراود كاهناً عن نفسه. هناك سياحة طويلة على أحدنا أن يضرب في مناكبها حتى يصل إلى أبجدية الفلسفة وفهم الذين يتحدثون لغتها.


 ولنعد إلى حمزة، ففي ذكرى المولد البنوي خاطب الشاب الرسول عليه السلام خطاباً افتراضياً حميماً، فيه من العتب والشكوى والحب. وقد رآها المتدينون في السعودية رؤيا حامل كأس سائله أصفر، يصرون على أنه خمراً وما هو بخمر، وأن كل مترنح سكران! وبالتالي فإنهم مقتنعون أنه يجب أن يقام عليه حد شارب الخمر، ومن يدافع عنه فهو سكراناً مثله. 
.
ولن اُرجع من عندي أي رابط أو أستعرض بعض مما قال الشاب، فبالتأكيد قد مررتم على كل ذلك قبل أن تتعثروا بمقالي، وقد أجد أن ما كتبتُ هنا مكرراً، بل وقد أكرر نفسي مما كتبت في  مقالات أخرى. 


**


أتابع بعض المُلحدين على تويتر ،وليس كشغري، والذي أعاد في بروفايله نشر تغريدة عليها أن لا تنتمي إلى حصيلة أفكار ملحد مثله، المؤثِّر حقاً، أن يقوم بإعادة نشر جملة تقول (اللهم دُلّني على من يدلني عليك)، وهو القائم بكتابة آرائه الإلحادية أحادية البُعد طوال الوقت، فذلك يستحق علامة تعجب كبيرة!

إذاً هناك قلب ينبض بالسؤال وعقل يتيه بالبحث وروح ترنو إلى مرفأ!! إذاً هُموا ليسوا مخلوقات دُنيا أو مرضى طاعون علينا حرقهم أينما ثَقِفْناهُم!!! سواء صنفناهم مُلحدين أو شاطحين أو زنادقة أو ما تكن القائمة التي نبنيها لهم

نعم، قد ينتهي الطريق بالمُلحِد إلى الله إن كان في طريقه إليه محطات نورانية تجسد له وجود الله وليس ثُلّة بائسة ترتدي عِمة الجهل وقفطان السلطان، أو سينتهي به الحال، إن لم يكن محظوظاً كفاية ويلتقي بهذه الثلة، بأن يحتفونه إلى القصاص الرجيم. 

وموضوع كشغري مع اختلاف أصل حكايته إلا أنه مجمول بدوامة هذه القائمة الطويلة، فقد أمر الملك عبد الله بقتله، فهو المترنح حامل الكأس الحرام، وهذا بعد أن أعلن توبته ورجوعه عن كل ما كَتَب ثم فراره بحياته إلى إحدى الدول الآسيوية ونبأ التربص به لإلقاء القبض عليه، وكأنه آخرهم ثم تطوى صفحة الملحدين في العالَم. وإن أتى على خاطرك زيارة تويتر -الموضوعات السعودية- ستقرأ العجَب العُجاب. يصبح الجميع فلاسفة مؤمنين يقدمون هدايا الوعظ والنصائح والنبوءات، يشمئزون، ويرسمون كمالهم في مائة وأربعين حرف، كائناً من كان يغرّد، أو لنقل ينعق.

جلسات "المُكَسّرات" التي تنشط هذه الأيام تذكرني بأيام هُجْنا وضربنا على الصدور وسلَلْنا سيوف الحرب على الرسام الدنماركي كيرت الذي رسم الرسول، وقررنا مقاطعة المنتجات الدنماركية، ومحاوَلة البعض تهديده، وأخبار في كل مكان عن معجزة احتراقه في منزله...الخ، وقبلها بسنوات، ثورتنا الفحولية ضد سلمان رشدي والتي ماتت ساعة مولدها.

أعدكم، هي أيام معدودات وستنام جمراتنا الحَمِأة تحت رمادها قريباً. هكذا نحن، دائماً، نأد أولادنا خشية إملاق ونسهو عن النظر إلى السماء ومائها ونبتها الذي يرقص حولنا، لا نفكر ولا نتفكر في من رزقنا وإياهم، ولا نتروى قليلاً كي نعرف أن الضال له ألف حل قبل قتله وإهدار دمه وإزهاق روحه، وأنه ابن وزرنا وجهلنا. وبأن الله الذي لم نراه قد دَلَّنا عليه بالنجدين وبقلوب تراه وبرسالات حولنا في كل مكان، وأنه تكفل بهداية الضالين، وأن مسئوليتنا تجاه الملحد والتائه والـ "شاطِح" لا تنتهي بـ "وأده"!!

***

خلاصة القول



 لا تنسوا قول الغزالي
 إن انتشار الكفر في العالَم يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم

وقول عمر بن الخطاب
ربّوا أبنائكم لجيلهم فإنهم قد خُلِقوا لجيل غير جيلكم


إن كان ابنك عاقّاً وتطرده إلى الشارع سيزيد انحرافه، وهذه ليست تربية هذا خلل. 
هو عاق والوالد مُعاق

لن تنتهي هذه المشكلة، لا ولا أي من مشاكلنا، لأن الحلول دائماً بائِرة والقائمين عليهاعقيمين. وكأن الحياة تخلو من الشوائب. وكأن الدنيا فريقين أولهُما قائم مقام الوكيل الإلهي والآخر مُلحد، وضال، و...الخ مما ليس له حصر من خطايانا

على ولاة الأمر وهم الأسرة، المدرسة، المؤسسات الاجتماعية المختلِفة، الدعاة، الناشطين الاجتماعيين، رجال التطوير البشري، الخبراء النفسيين، القدوة من مشاهير المجتمع، و...من في قائمتهم ....

1
تغيير الطريقة التي يتعاملون بها مع شباب الثورة الفكرية والانقتاح المعلوماتي 

2
تطوير وتعديل اللغة البنائية التي يُخاطبون بها الشباب

3
تغيير جذري لأرضية المناظرة الفكرية التي يعملون بها مع كل الناس وبناء شكلية جاهزة مُحْكَمة وظاهرة يمكنها احتواء هذا الجيل ابن التكنولوجيا وأخيراً ابن الثورات 

4
تطوير واستيراد الأدوات التنويرية بما يتوافق مع ما غيرته الطفرة التكنولوجية من طرق تلقي هؤلاء الشباب. فمن يحب القراءة فله ذلك، ومن يحب الرسم وهو كذلك، ومن يحب الموسيقى له مثل ذلك... وهكذا

5
التبرء من شكلية ذي المقام الأعلى صاحب الكلمة الأكمل في الحوارات مع الشباب، فزمنهم يقدم لهم في سنة ما اقتناه عالم من علماء الأمة في مئات السنوات، واحترام عقلهم أوجب حتى لو كانوا في سن صغيرة، ولا ننسى فإن شيمة المُعَلِم التواضع للعِلم وتقدير التلميذ

6
عدم اختزال كل هؤلاء الشباب إلى شخص واحد يتوجب معه ذات الطريقة ونفس الأسلوب. كل شاب له مدخله الخاص به وبيئته القادم منها وغير ذلك، علينا أن ندخله، وأحياناً تكون إحدى الطرق بالابتعاد الكامل عن النص الديني المباشر وغير المباشر. هناك طرق أخرى يمكنك الوصول بها إلى قلب وعقل الشاب كي تحدث فيه التغيير المطلوب، كن بحجم القضية وعلى قدر المسئولية 

7
 الإعتراف بوجود المشاكل التي تواجه الشباب كماً وموضوعاً والتعامُل مع المشكلة لحلها وليس مع صاحب المشكلة لإحجامه

8
أن يبتدء كل منا بنفسه. فالمربي يحتاج إلى نصيبه من التهذيب والصقل واحترام العقل وعقل الآخر كي يستطيع إنتاج جيل يشبهه. وهو فعلياً يفعل ذلك لكن قبل التحديث! 

***

وأخيراً، أبنائنا المغردين خارج السرب ليسوا صابئين وإن بدوا كذلك وإن أعلنوها. في كل واحد منهم قبيلة نخسرها في غد إن خسرناه اليوم.
هناك الكثير الكثير من الطرق المؤدية إلى شباب بنّاء نهضوي واعي مسلم، ولنضع أمامنا تجربة ماليزيا، وقبل أن نضعها أمامنا علينا أن نضع نصب أعيننا قبل وبعد كل شيئ ولاة الأمر في ماليزيا ونبدء منهم.

مرة أخرى: الغِلظة .. الغِلظة .. الغِلظة 
هي أم الخبائث، فابتعدوا عنها
(رَوَتْه لونا رضي الله عنها وأرضاها)



 لن أحصي كل الحلول، بل قل الاقتراحات، ليس مقامها هنا ولستُ الأهل لذلك. أنا فقط اُنير شمعة، وحاول أنت أن تنير شمعتك، كي نصنع شمساً




**هامش**

تغريداتي التي كتبتُها حول هذا الموضوع


نظرتنا إلى المُلْحِد إلحادية. نراهم كائنات ظهرت هكذا فجأة دونما سبب أو مُسَبِّب من عدم وبالمثل نحاربها إلى العدم.
**
يُفترَض أنّا مُنَظِّري المدرسة الإيمانية، كل المعادلات تأتي من أسباب وتؤول إلى نتائج ولا تنتهي إلى العدم، وكلنا مسئول عن الآخر كالجسد الواحد
** 
يخلّوك تطلع من دينك ولما تطلع منه يذموك وكأنك جرثومة ثم يخرجون جماعة لقتلك. أنتم من يجب أن يتخلص منهم الناس
 **
ياللهول! يتوب الله على من تاب ولا يتوب الحاكم ورجاله. خيراً فعلتَ يا حمزة
 **
عبادة الحُكام لا تُخرِج من الملة ولا تستدعي القتل، وقد يؤدي الإلحاد بالحاكم إلى القتل بطبيعة الحال
 **
من الغباء أن تحطم جوهرة لأنها فقط كانت ملوثة، ومن الحكمة أن تنظفها وترعاها كي تعود إلى لمعانها. ما أقول ونحن أمة لا تقدر جوهرة العقل
**
منقول عن -أبي القعقاع-: أي تغريدة بها تجاوز ديني، صورها وتواصل مع كبار العلماء. (هل الوشاية من الإسلام؟ ومن هم (كبار) العلماء طال الله عمرك؟) يُتبع
**
كشغري حافظ للقرآن وكان إمام مسجد. آمَنْ يسأل هنا: مالذي يؤدي بأمثاله إلى ذلك؟ وماذا عن احتضانهم والحوار معهم لكسبهم وليس لفقدانهم! ..يتبع
**
أيُّها أسْلَم، أن يفصح أحدنا عن فكره لإمكان فهمه وتقويم أي اعوجاج، أم، أن يخبئه بأمراضه كي يخرج على المجتمع؟! أهكذا نربي أبنائنا؟
**
كان يا ما كان، كان المجتمع المسيحي متدين، حتى طَغَتْ غلظة الكهنة وعصاهم على كل مفكر، واليوم 90% منهم ملحداً! أوَ 
نحن على الدرب؟
**
كشغري أفصح عن فكره وسهُل بذلك اقتناصه، لكن، هل تعلمون كم نسبة تزايد الملحدين السعوديين المختبئين في عبائة الصمت؟ من سببهم؟

-رد أحدهم علي بأن علينا ملاحقة "الملاحدة"!! ثم أردفتُ بالقول:
أنت في زمن التَيه، ولوم الملحد وملاحقته لن يوقف من تفاقم المشكلة. أوَ انتهت الحلول؟




No comments: