مقال خفيف الظل مترامي الأبعاد تقدمه أكاديمية التغيير بقلم وائل عادل
***
أين الشعب
بقلم: وائل عادل
سألت أحد قاطني الأحياء الفقيرة، في رأيك هل سيحدث التغيير؟ أجابني هذا شعب لا فائدة منه، قابلت بعض الطلبة، سألتهم نفس السؤال، فحصدت الإجابة نفسها.. ذهب إلى الأمهات في البيوت .. فلم تختلف الإجابة.. ذهبت إلى كل مكان... أبحث عن الشعب.. الكل يتحدث عن طرف غائب يدعى الشعب... بدأت أسأل الناس في الشوارع كالمجنون.. يا أستاذ.. هل أنت الشعب؟ يا أخت.. هل أنتِ الشعب؟! كاد عقلي يطير.. هل خدعونا منذ طفولتنا وحدثونا عن شخصية وهمية تُدعى الشعب؟ هل رددوا أمامنا كلمة الشعب لنشعر بالعجز وخيبة الأمل؟! هل فكرة الشعب أصلاً طعم لقتل أمل التغيير في الناس؟! فقد ولدت وداخل رأسي فكرة تصرخ بصوت يتردد صداه في جنبات عقلي.. "الشعب لا يمكن أن يتحرك"!!
أدركت أن الشعب لا يمكن أن يتحرك.. لأنه لا يوجد ما يسمى بالشعب.. فكيف يتحرك كائن وهمي لا وجود له نسجه خيالنا لينسب إليه كل خلل... لا يوجد شيء يسمى الشعب... يوجد أنا وأنت فقط.. فإن كنت أنت مقتنع بالتغيير وأنا كذلك.. فأين المشكلة إذن.. ازددت حيرة .. قلت بالتأكيد الجواب عند أهل الفكر.. كيف لم أمر عليهم؟!
ذهبت إلى بعض أهل الفكر، قلت لهم: سمعت أن الشعب لن يحدث التغيير، أريد أن أسألكم بحكم خبرتكم.. أين أجد هذا الشعب؟! أريد أن أسأله بنفسي.. قالوا لي الشعب لا فائدة فيه، الشعب منذ مطلع التاريخ شعب خانع غبي، قلت لهم لا أسألكم عن صفته .. أسألكم عن مكانه.. أين الشعب؟ هؤلاء الذين تنعتونهم بالغباء.. أين هم؟ من تعنون بالضبط؟ وما موقعكم منهم؟ هل أنتم الشعب؟ أنا أبحث عن الشعب وتلفت قدماي من السير.. أجابوني: نحن جزء من الشعب..
قلت لهم: وأين بقيتكم؟! وإن كنتم أنتم جزءاً، فأي جزء منه، رأسه أم مؤخرته؟! واضح أنكم شيء بارز فيه لا أدري طبيعته!!
قلت هذه الجملة بسخرية.. بمرارة.. ثم فجأة.. لمعت عيناي.. فقد أتتني الإجابة حبواً.. نظرت لهم مجدداً.. قلت في نفسي.. هل هم مؤخرته.. أم رأسه؟! خرجت سعيداً جداً..
فالشعب موجود وليس موجوداً، أجزاؤه موجودة، لكنها في صندوقها لم تخرج أو تركب بعد، فالشعوب تُبنى، والشعب ليس أنا وأنت، هو ليس مجموعنا، هو شخصية تختلف عن مجموعنا، ولها من الطاقات ما يفوق حدودنا. فما هو الشعب؟!
الشعب هو كائن يختلف عن أفراده، قد يكون على صورتهم، له عقل وعين ويد وقدم و..و...و. لكن ليس معنى وجود البشر وإن زاد عددهم أن الشعب موجود، فالناس كثر يحيطون بنا ونحيط بهم، لكنهم ككتلة لحم متكدسة مطموسة الملامح، كصلصال لم يتشكل بعد؛ ليس كل تجمع بشري هو شعب، بعض التجمعات أورام أو دمامل، فالناس ليسوا موزعين بنسق يصنع كائناً يدعى "الشعب".. العبرة بكيفية توزيع الأفراد في ذلك الكيان الجديد المدعو "الشعب"..
فهناك مجموعات من أهل العلم والفكر تتكثف لتصنع عقله، ومجموعات من أهل الروح يتكثفون كقلبه يضخ فيه القيم، ومجموعات تعمل كالشرايين التي تمد كل نسيج فيه بالخدمات التي بها تنتعش الحياة، ومجموعات تعمل كعين الشعب، ترسم الرؤى وتحدد المسارات، ومجموعات تعمل كالأظافر تحمي أصابعه، وكالرموش تذود عن عينه.
الآن يولد الشعب، ها هي ملامحه تتضح، ها هو يتشكل قطعة قطعة. ويُنشأ خلية خلية..
ولكل شعب هيئته، فشعب راقص سيحتاج إلى الاهتمام بساقيه ليفتن ويغري، وشعب عالِم سيهتم بعقله وعينه ليبدو في أبهى حلة، وشعب يسعى للتغيير سيحتاج إلى بنية مفتولة، عقل متقد وعين حادة، ويد مشدودة، وأرجل قوية، وشرايين قادرة على تحمل أعباء هذا الجسد.. وقلب نابض تزلزل دقاته الخصوم. وهكذا يبنى الشعب ككيان مستقل عنا، ونختار لأنفسنا أدوراً في ذلك الكيان!!
وعندما يوزع الناس بشكل دقيق، وفق ميولهم والأدوار التي يرغبون في القيام بها، على كل شخص حينها أن يلزم موقعه، فأهل الفكر يطورون الفكر ويحاسبون .. ماذا قدموا من فكر؟! وأهل الرؤية يعكفون على صناعة الرؤى ولا يغادرون وجه الشعب كي لا يبدو أعور، عليهم أن يزيدوا عينيه اتساعاً وجمالاً، وأهل البأس والتنفيذ يقوون عضلاتهم فيُرى شعب مهيب، هكذا يعكف كل إنسان على دوره.. حينها سنجد كياناً مذهلاً يُدعى الشعب.. وهذا الكيان بطبعه تتفاوت فيه درجات البذل والمعاناة والمغانم والمغارم بحسب الدور والموقع من الجسد!!
ولا ينبغي أن يحاول كل فريق أن يشد الآخرين له، أو يسفه أحد دور الآخر، فتعتب القدم على العين أنها تنظر للأمور من عل وأنها لم تتلطخ بالوسخ، هل يُعقل أن تترك العين موقعها لتقوم بدور القدم ويُطلب منها أن تحمل الجسد؟ أو توضع القدم بديلاً للعين فتطمس الرؤية؟! فكل لو دوره المؤهل له.. القدم تحمل الجسد والعين تقود خطى القدم، وأي اضطراب في الأدوار سيؤدي إلى اضطراب في هيئة الشعب.. وسنعود للسؤال من جديد .. أين الشعب؟!
عندما يقول لك أحدهم.. الشعب لا فائدة فيه، سله مباشرة، ما هو موقعك في هذا الشعب وما وظيفتك؟ فأغلب من قابلتهم كانوا يسبون ويرمون الشعب بأقذع الألفاظ، يبدو أنه تم تركيب أغلبهم خطاً في المؤخرة!! فيرون أسوأ ما يقدمه الشعب!!
***
ذكرني هذا المقال - والذكرى تنفع المؤمنين - بالجسد الواحد .. لا يكتمل كله إلا بتوائم وتوافق عمل كل جزء مع الآخر
No comments:
Post a Comment