عندما قررتُ أن أكتب هذا الموضوع كان مضمونه يدور حول قصة واحدة أثارت اهتمامي وتساؤلاتي لأجد نفسي سريعاً في خضم تفاصيل عشرات القصص التي صاغها هذا الفنان القادم من البعيد.
مع كل جديد أدخله في عالمِه أغرق في المزيد من الدهشة ، وتعود الكَرَّة .. حتى امتلئتُ واُتْخِمتُ وقررتُ أن أتوقف كي اُغيِّر مساري من بدايته ، من حيثُ بدأ هو لا من حيثُ أردتُ أنا أن أبدأ.
ساندو بيرك .. الرسام الأمريكي المثير للفضول لدى العديد من الكُتَّاب والمحللين الفنيين في أمريكا ..
أعماله الفنية وإن يبدو على بعضها السوداوية والضيق إلا أنها في جوانبها المتداخلة تنم عن جرأة في تصوير الواقع بكل فظاظته وسخريته من خلال لوحاته وسكتشاته.
قصص بيرك ، أو رسومه إن صحَّتْ التسمية ، لم تأتي من خيال خصْب أو ثقافة متنوعة وحسب ، بل هو الذي أراد أن يتنشق أبعاد المكان ويصبه في ألوانه ، وبجانب ذلك ، أصبحت أعماله ترجمة أو رسالة يقدمها للناس يثير سؤالاتهم أو تفكيرهم في الموضوع الذي تصوره رسومه.
لن أضع هنا سيرته الكاملة .. قد تخبركم الصور كثيراً ..
واحتفاليتي الكبرى لهذا الموضوع تكمن في آخر أعماله التي يقدمها في معرض نيويورك التشكيلي ، كآخر محطاته.
يعرض المعرض ثلاثين لوحة فقط من أصل ثلاثمائة لوحة لـ مائة وأربع عشرة سورة هي عدد سور القرآن الكريم ، والتي ما زال يقوم بإنهاء بقيتها كي يعرضها في هيكلة وصيغة كتابٍ واحد بنفس ترتيب سور القرآن الكريم الكتاب.
الجديد هنا أن جميع سور القرآن الكريم قد خُطَّتْ في خط "غرافيتي الصَّنعة" متسق فوق صور من الرسم التشكيلي المعاصِر الذي يوضح أشكالاً مختلفة من الحياة اليومية الأمريكية وبعضها تصور بعض الفواجِع التي ما زال يذكرها الشعب الأمريكي مثل حادثتي هيروشيما/ناجازاكي ، نيو أورليانز ما بعد كاترينا ، حرائق الغابات ، وبالطبع ، حادثة البرجين ، ويقترب هذا النص القرآني بشكل غريب إلى وصف المشهد الذي يمثله في الخلفية. كانت الصور خيالية ولكنها بطعم الواقع.
وإن كانت صوره السابقة هنا قدَّمَتْ شكل الألم في بعض بلداننا العربية من جراء الاحتلال ، كالتي في العراق ، كما هو حالها فعلياً ، فإنه كي يستطيع معرفة ماهية الدروس والأفكار التي قد يقدمها القرآن لمجتمع القرن الواحد والعشرين الأمريكي ، فقد سطَّرَ في بعض صوره شكلية المعركة الحالية ضد أميركا التي يشنها عليه المتطرفين الإسلاميين.
وقد يكون أكثر عجَباَ وإعجاباَ عندما نعلَم أن بيرك صرفَ قرابة عقد من عمره في زيارة العديد من الدول الإسلامية والكثير من المعارض الفنية والمتاحف يتزامَن ذلك مع الأحداث السياسية حول العالم والتي دفعته لمثل هذا العمل الضخم في المقام الأول ، باحثاً بالطبع في القرآن الكريم وتراثه الثقافي والفني ، وأمضى أربعة سنوات في كتابة القرآن يدوياً للتعرف على مهارات وفنون الخط العربي على أشكاله واضِعاً بصماته الخاصة باستخدام فن الغرافيتي الحديث في الكتابة .. وفي شكل سلس وغير مألوف يربط بين الحياة اليومية والأحداث المعاصرة الأمريكية بأيات قرآنية تحاكي شيئاً ما في هذه الصورة.
وربما يكون هناك بعض الصور المأثورة القديمة لبعض آيات من الانجيل المتداوَلة بين الناس ، أما أن تُصوَّر آيات القرآن الكريم في ذلك القالَب الذي قدمه بيرك ، فهذا الجديد الذي ستختلف حوله ردود الفعل الاسلامية قبل غيرها.
تقدم هذه المجموعة المتميزة والمثيرة لنقد وتوثيق المعجبين والمعارضين بين المتخصصين ومحبي ومتابعي الفن التشكيلي المعاصِر ، تقدِّم سؤالاً واحداً عن لسان راسمها : هل يستطيع القرآن ، وهو الكتاب المحفوظ عربي اللغة ، أن يملك حيزه المؤثر في الثفاقة الأمريكية؟
وكما قال لنيويورك تايمز "كان تقديم هذا المعرض من أكثر الأمور التي ترددتُ فيها بين كل ما قدمتُه". وما يأمله من هذا المعرض أن تعكس رسومه التشابهات في تعليمات الاسلام ، اليهودية ، والمسيحية على حد سواء لتتيح فرص أبعد للتواصل والتفهم بين الناس بعيداً عن مشاعر الخوف من المجهول المسيطرة على الجميع على السواء.
تصور الآراء الأمريكية مختلفة الشرائح ، حول هذا المعرض ، الزاوية الضحلة الإرهابية للتوجيه القرآني ، والتي لم تخرج عن الفحوى السوداوية والسخرية من مضامين بعض الآيات التي استطاعوا أن يفهموها من البعد الضيق المعتاد لدى هذه الفئة من الناس ، و آخرين منهم استطاعوا أن يقرؤوا اللغة المضمنة لـ بيرك كما يراها
وعلى الجانب الآخر ، هناك الرؤية الخاصة ببعض الجاليات المسلمة التي زارت المعرض ، فهنا يقول عثمان مدى ، مدير جامع الملك فهد ، أن البعض قد يعتبر هذا المعرض هجومي وعدواني فاحتمالية ذلك كبيرة ، ومن جانب آخر كان لـ محمد القرشي ، مدير المركز الاسلامي في جنوبَي كاليفورنيا ، ردة فعل أكثر حدة ولا تقبل ما يقدمه هذا المعرض برُمَّتِه ، ورغم انه عاش زمناً طويلاً في كاليفورنيا ما يجعله معتاداً على تنوع مفاهيم الحرية الفكرية ، إلا أنه اعترض بلهجة المتحدث باسم الله وكأن على الرسام المثول أمامه وطلب الغفران والمسامَحة.
في رأيي الشخصي .. كل حادثة أو مناورة إعلامية تمت على الإسلام والمسلمين أو اُلْصِقَتْ بالإسلام والمسلمين أنتهت في أغلب إحصائياتها إلى مزيداً من تسليط البحث لمعرفة المزيد.
فسواءً كانت صوراً كاريكاتورية تستهدف الإسائة أو أفلاماً قصيرة تثير غضب الشارع العربي المسلم وأبنائه أو كانت رسوماً تشكيلية جديدة من نوعها كالتي قدمها صديقنا بيرك هنا لتقريب وجهات النظر ، جميعها تنتهي عند مطاف الحقيقة سواء تم الاعتراف بها أو لا .. بمعنى .. أنني أرى أن هذا المعرض بكل لوحاتة المائة والثلاثة والثلاثين هو وجبة مسلمة بروح أمريكية لمزيداً من تنقيح وغربلة تلك الثقافة المغلوطة عن الإسلام والمسلمين ، ولا ننسى أن حادثة البرجين رغم كل مساوئها التي عانينا منها كمسلمين ، إنما كانت مرفأ جديداً استقبل آلاف من السائحين في دنيا الحقيقة نحو استيطان هذه الأرض الآمنة التي نعرفها جميعنا بـ الإسلام.
في النهاية كل له رأيه والطريقة التي يعبر بها عن رأيه بل والخريطة الخاصة التي يرسمها كي يرى الآخرين من خلالها رأيه ، ويبقى في النهاية لنا هذا التنوع الغني لتلك المحصلة الكبيرة لآلاف الآراء الآتية من كل الأصقاع تصب فينا وتثرينا كما تثري الكثير غيرنا.
يبقى لي حرارة انتظار رأيكم أنتم في هذا المعرض ..