قديماً كنتُ استغرب من والدي وكيف ان متابعة الأخبار على التلفزيون وفي الجرائد وبين صحبه تعيق باقي مسيرة يومه بشكل طبيعي، وكيف أنه يجلس في كل لقاء له بالآخرين يناقش أحداث الساعة وتطورات المنطقة وقضية فلسطين وما إلى هنالك .. وعندما كنتُ اسأله كان يرد ياستغراب غاضب ليقول لي: إزاي ما يتحرقش دمي وانا بشوف الدنيا بتتخرب قدامي كدة، الله يرحم أيام الوحدة وأيام انتصاراتنا لما كان العالم يعمللنا ألف حساب.
كنت استمع اليه على مضض ولا أفهمه، ما شأننا نحن وأهل السياسة، يعملوا اللي بدهم ياه، كنت أرى السياسة عبارة عن شركة تدير مشروعاً ما بعيداً عن حياة باقي الناس، اللي اشتغل ولا اللي اترفد ولا اللي اتحرق حتى "شو خصنا نحن؟" .. لم اكن أرى صلة حكاوي السياسة بحكاوي الناس وحياتهم اليومية
كبرت وقرأت كتباً في التاريخ والدين وغرائب القصص من قديم الزمان وحديثه، وأصبحتُ أتوسع في قراءاتي لأقرأ تاريخ حياة بعض المشاهير في السياسة والفن ثم الى كتب التحليل السياسي .. أخذ هذا الاتجاه في القراءة في اضطراد الشغف لمعرفة ما خلف الكواليس وخلف السطور التي حينما كنتُ من عامة القراء لا افهمها بل ولا اهتم بها ولا اصدق الكثير منها
عندما درست مادة السياسة كمقدمة كنتُ أرسبُ فيها وأعيدها بعد إحراز علامات تحت خط النجاح كنتُ اُصاب بالدوخة الفكرية والدوشة ... شبكة كبيرة من الأمور.
يقف عند كل نقطة في الشبكة شخص أو بلد أو حكومة ما وكل منهم يحمل رزمة كبيرة من الأوراق مليئة بالكلام الكثير الذي يسمى بالقوانين والأحكام والتشريعات وفي حقيبة هذا المحترم مسميات ورسوم كثيرة يقول أن على العالم أن يمشي حسبها أو يسيِّر حاله بها فتجد فيها الماركسية والاشتراكية والديموقراطية والرأي العام و مجموعات الضغط وحق الفيتو ...الخ .. أوففف دوشة، أحمد الله أني خرجتُ من دائرة التعامل معها. كل هذا يمثل الشكل العام للسياسة، ثم تعلم عندما تخرج إلى عالم الواقع أن ما كان في كل تلك الكتب والمجلدات هو فقط الف باء احادي الأبعاد والنظرة من هذه الحكاية حتى وإن بدى غير ذلك، وفي عالمنا ثلاثي الأبعاد تجد عالم السياسة بأهله مختبئ خلف بُعْدٍ آخر من اختراعه لا يراه كل الناس إلا خاصة أهل السياسة ومن والاهم ومن اقترب منهم عن قصد أو غير قصد .. وما خفي كان أعظم
أستغرب من نفسي اليوم كثيراً .. معظم كتاباتي - لا اُسميها مقالاتي - مهما كان تصنيفها بين دينية، فنية، تطويرية، أو نهضوية .. الخ أجدني أذكر أمر دائماً على حارة من حواري السياسة، وأحياناً أنتهي إلى البحث حول من هم خلف هذه الكواليس الذي لو دققت في ظلامها لرأيت مبعوثاً سياسياً مقنعاً قابعاً صامتاً دون حراك هناك وقد يكون مرتدياً زي الأراجوز ما المانع، واضطر مع ذلك التحدث حول شئ من هذا القبيل
وصلتُ إلى قناعة أنه لا يوجد شئ اسمه سياسة ولا يمكن فصل كيانها وهيئتها والعاملين عليها عن حياة كل فرد حتى لو استخدمت تلك الديباجات وتلك المصطلحات التي لا يعرف معناها المتفرج العادي. هناك ساسة ورجال سلطان.
السّاسة هم مجموعة من الناس يملكون مالاً وقوة وقدرة وحنكة يتولون بهم قيادة دولة أو مجتمع ما بمقدّراته، ويستخدمون طرقاً خاصة يتحدثون عنها عند لقائاتهم البعيدة عن عيون الصحافة والتلفزيون وحتى الحرس الخاص بهم والأبواب موصدة والأضواء خافتة ومن هنا تصدر قرارات أو قل مؤامرات حكم العالم أجمع، وعندما يتحدث هؤلاء فهم يتحدثون عن كل شئ له صلة بالدول والمجتمعات كيما يتم إحكام القبضة عليها وحكمها بما يريدون، فبين الدين والطب وعلم الإنسان و تفرعاته والمجتمع وتفرعاته وعلم الآثار والزراعة والهندسة ..الخ مما لا يجب عليك ترك صغيرته أو كبيرته لو مرعلى ذهنك، تجد حوارات دائرة وقرارات سرية وتنفيذ عالي الحرفة والدقة والغرابة
وتأتي أجيالاً وتذهب ولا يعرف هؤلاء شيئاً عن كثير من الأمور ليس من الضروري أنها اختصاصية
.. هل سمعت يوماً بالطاقة الحرة، الأرض المجوفة، أسرار هتلر غير المعلنة، سر قوة الصهيونية ومحافلها الماسونية، وغيرها؟ الكثير منا يعتقد أن كل هذه الأمور كبيرة وليس لنا نحن العامة فيها لا ناقة ولا جمل وما يدعم ظننا هو المشوشات المحيطة بنا والتي ظهرت في حياتنا ليس من باب تطور الإنسانية فقط بل ومن باب إحكام السيطرة عليها أيضاً
كل ما يجري فوق يقوم على أساس إحكام تجميع هذا القطيع البشري داخل سياج حظيرة محكومة واحدة تعيش تحت أمر مالكها .. هذه هي الحكاية من الآخر .. لا سياسة ولا دياولو
قبل حادثة محمد الدرة وأحداث سبتمبر، لم يكن لي خوض شخصي مباشر في ما يحدث في العالَم العربي والعالَم وربط الأمور بعضها إلى بعض. لكن بعد ذلك بدأ يشدني شغف "أن أعرف" حقيقة ما يجري، وبدأت مذاك اقرأ كتباً لم أكن لأصدق أبي لو قال لي حينما كنتُ صبية أني سأقرأها يوماً
واليوم، أنا أعلم أني ما زلت لا أعرف شيئاً عن السياسة بل وهناك الكثير في التاريخ الذي حدث في القرن الماضي لا أعرفها بعد، لكن ما يهم أني عرفته جيداً أن من يحمل قلمه ويكتب في الواقع فإنه لا يكتب عن السياسة حتى لو امتلئت سطوره بحكاوي دهاليزها البشعة، إنما هو يسطر ما يراه في كل حين وما يتلقاه كإنسان من كل حدب وصوب على أشكاله وأنواعه ما اقترب منه وابتعد
وأسأل: ما تعريف كلمة "سياسة"؟ وبعيداً عن النسق النظري، ما وجهة الربط بينها وبين كلمة "سايس" و "سيسي" و "سواسية" و "وسواس" و "سوس" .. والخ من أصل جذر الكلمة .. ثم أسأل: ما علاقة صحن الفتوش والفول وربطة الخبز بالحرب النووية .. ما علاقة اختفاء الهنود الحمر بغلاء المعيشة في البلاد العربية؟
وفي تعريف السياسة كلام طويل، وفي الكلام عن أحوالها وأهلها صفحات تطول. لكني أستطيع أن أقول أنهم قوم تفردوا عن باقي الأقوام، وانفردوا بدفتر التاريخ واحتكروا الكتابة فيه لهم وحدهم
فأنت قد تعتمد قصة من التاريخ لكنك لن تجزم بأنها حذافيره، فدائماً هناك زوايا أخرى لنفس القصة، وحتماً هناك حقب من التاريخ حُذِفَتْ، حُرِّفَتْ، أو اختُلِقَتْ
وهي السياسة التي يستظل تحت عبائتها كل شئ من الدين حتى معجزات الكون، وهي السياسة التي تبدء دائماً بالإنسان ونوازعه واحتياجاته ودأبه، وتمر بالبشر وأنماطهم وأعراقهم وكل العلوم المتصلة به بدء من الطب فقوة عقله وإرادته. ومن لدنّ السياسة وُلِد مفهوم الثالوث المُحرّم: السياسة، الدين، والجنس، فهم مصدر القوة وبهم يمكن السيطرة على الإنسان والتحكم فيه، لذا، فمحرم على عامة الناس الكلام فيهم لأنهم كلما عرفوا وفهموا صار حكمهم أصعب
وكما قلتُ لكم، ما زلتُ لا أعرف الكثير، ولن أحب الاقتراب كثيراً فأنا أستطيع أن آخذ ما يهمني ويساعدني على الاقتراب من الحقيقة، بقدر الإمكان، دون أن أدخل في أي دوامة، وفي رأيي هذه سياسة :)
أرأيت يا والدي العزيز .. أصبحتُ سياسية محنكة .. دون أي مُعَلِم .. وعجبي